فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الثامن بعد الخمسمائة‏:‏

الطويل

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا *** إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصف

على أن الأغلب مجيء إذا الفجائية في جواب بينا، كما في البيت‏.‏

وقد تقترن الفاء الزائدة بإذا، كما قال ابن عبدل، وهو من شعراء الحماسة‏:‏ الكامل

بيناهم بالظهر قد جلسو *** يوماً بحيث تنزع الذبح

فإذا ابن هندٍ في مواكبه *** تهدي به خطارةٌ سرح

قال ابن جني في إعراب الحماسة‏:‏ يوماً منصوب لأنه بدل من بينا، ألا ترى أن معناه بين أوقات هم قد جلسوا، وذلك البين هو اليوم الذي أبدله منه‏.‏ وليس يعني باليوم المقدار المعروف من طلوع الشمس إلى غروبها، وإنما يريد الوقت مبهماً لا يخص به مقداراً من الزمان‏.‏ وقد يكون برهةً من الدهر تشتمل على الأيام والليالي‏.‏ وزاد الفاء في قوله‏:‏ فإذا، وإنما أراد‏:‏ بيناهم كذلك إذا ابن هند قد فعل كذا‏.‏ انتهى‏.‏

ويؤخذ منه أن بينا يجوز اقتران جوابها بإذا، وإن أبدل منها ظرف زمانٍ آخر‏.‏

وقول الشارح المحقق‏:‏ ولا يجيء بعد إذا المفاجأة إلا الفعل الماضي ، أراد‏:‏ مع بينا وبينما، وهو الظاهر كقوله‏:‏ البسيط

فبينما العسر إذ دارت مياسير

وأما مع غيرهما فلا تأتي المفاجأة‏.‏ قال أبو حيان في الارتشاف وتأتي إذ للمفاجأة‏.‏ قال سيبويه‏:‏ بينا كذا إذ جاء زيد‏.‏ فهذا لما يوافقه ويهجم عليه‏.‏ انتهى‏.‏

ولا تكون للمفاجأة إلا بعد بينا وبينما‏.‏ انتهى‏.‏

وكذلك قال ابن هشام في المغني‏:‏ تكون إذ للمفاجأة، نص عليه سيبويه، وهي الواقعة بعد بينا وبينما‏.‏

وأجاز الرضي مجيئها لها في غير جوابهما، فيما يأتي قبل إيراد قوله‏:‏ بينا تعنقه الكماة ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت الآتي، فقال‏:‏ وقد تجيء إذ للمفاجأة في غير جواب بينا وبينما، كما في قولك‏:‏ كنت واثقاً إذ جاءني عمرو‏.‏

هذا كلامه‏.‏

وهذا يحتاج إلى إثباته بكلام من يوثق به‏.‏ قال ابن جني في إعراب الحماسة‏:‏ قوله‏:‏ بينا نسوس الناس إلخ، أراد بين فأشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفاً‏.‏ قال أبو علي‏:‏ أصله بين أوقاتٍ نسوس الناس، والعامل في بينا ما دل عليه قوله‏:‏

إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

ألا ترى أن معناه بين هذه الأوقات خدمنا الناس وذللنا، كما أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون‏}‏ تأويله‏:‏ قنطوا‏.‏ فوقوع إذا هذه المكانية جواباً للشرط من أقوى دليل على قوة شبهها بالفعل‏.‏ وإذا هذه منصوبة بالفعل بعدها، وليست مضافة إليه‏.‏ وكذلك إذ التي للمفاجأة في نحو قوله‏:‏ الرمل

بينما الناس على عليائه *** إذ هووا في هوة منها فغاروا

إذ منصوبة الموضع بهووا‏.‏

وقال أيضاً في سر الصناعة‏:‏ أشبع الفتحة في بينا فحدث بعدها ألف‏.‏ فإن قيل‏:‏ فإلام أضاف بين وقد علمنا أن هذا الظرف، لا يضاف من الأسماء إلا إلى ما يدل على أكثر من الواحد، وما عكف عليه غيره بالواو، نحو المال بين زيد وعمرو، وقوله‏:‏ نسوس الناس جملة، والجملة لا مذهب لها بعد هذا الظرف‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن ها هنا واسطةً محذوفة، والتقدير‏:‏ بين أوقات نسوس الناس خدمنا، أي‏:‏ خدمنا بين أوقات سياستنا الناس، والجمل مما يضاف إليها أسماء الزمان، نحو أتيتك زمن الحجاج أمير‏.‏

ثم إنه حذف المضاف الذي هو أوقات، وأولى الظرف الذي كان مضافاً إلى المحذوف الجملة التي أقيمت مقام المضاف إليها، كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واسئل القرية‏}‏، أي‏:‏ أهلها‏.‏ هكذا علقت عن أبي علي في تفسير هذه اللفظة وقت القراءة عليه، وقل من يضبط ذلك، إلا من كان متقناً أصيلاً في هذه الصناعة‏.‏ انتهى‏.‏

وهكذا كل من شرح بينا، قال‏:‏ الألف نشأت عن إشباع الفتحة‏.‏ وزعم الفراء أن أصل بينا بينما فحذفت الميم‏.‏

قال أبو علي‏:‏ هذا لا يعرف إلا بوحي، وخبر نبي‏.‏ كذا نقل ابن جني في شرح هذا البيت‏.‏

وقال زين العرب في أول شرح المصابيح‏:‏ وقول الجوهري نشأت الألف من إشباع الفتحة ففيه نظر، وهو أن الألف إنما تتولد من الفتحة في القافية‏.‏ والحق أن بينا أصله بيناً بالتنوين، والتنوين فيه للعوض عن المضاف إليه المحذوف‏.‏ وهو الأوقات، ثم أبدل الألف من التنوين في الوصل إجراءً للوصل مجرى الوقف، فثبتت الألف ثبوتها في الوقف بدل التنوين‏.‏ وأما بينما فما فيه بمعنى الزمان فلا حذف فيه، وما فيه زائدة بين المضاف والمضاف إليه‏.‏ انتهى‏.‏

وعلى هذا فألف بينا عوض العوض‏.‏ ومثله غير معروف‏.‏ ويقتضي أيضاً أن يكون بينا غير مضاف إلى الجملة‏.‏

وقول الشارح المحقق‏:‏ لما قصد إلى إضافة بين إلى جملة زادوا عليه ما الكافة، وأشبعوا الفتحة ‏.‏ يريد أن ما والألف كفتا بين عن الإضافة إلى المفرد، وهيآها للإضافة إلى جملة‏.‏ وهذا شيءٌ غريب، والمشهور أن الألف من إشباع الفتحة، وبين مضافة إلى الجملة من غير تعرض لكف وتهيئة‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن الألف زائدة من غير إشباع، وهي كافة لبين عن الإضافة‏.‏ كذا نفل ابن هشام في الألف اللينة من المغني‏.‏

وقال أيضاً في بحث ما الكافة للظروف عن الإضافة‏:‏ إن ما تكون كافة لبيت عن الإضافة، كقوله‏:‏ الخفيف

بينما نحن بالأراك مع *** إذ أتى راكبٌ على جمله

وقيل‏:‏ ما زائدة، وبين مضافةٌ إلى الجملة، وقيل‏:‏ زائدة وبين مضافة إلى زمن محذوفٍ مضافٍ إلى الجملة، أي‏:‏ بين أوقات نحن بالأراك، والأقوال الثلاثة في بين مع الألف في نحو قوله‏:‏ فبينا نسوس الناس، البيت‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ صاحب القول الثاني لا بد له من تقدير الأوقات، فلا يباين القول الثالث‏.‏ ولم يتنبه شراحه‏.‏

وقوله‏:‏ والأقوال الثلاثة في بين مع الألف ‏.‏ فالأول‏:‏ تكون الألف كافة عن الإضافة‏.‏ والثاني‏:‏ أنها زائدة وبين مضافة إلى الجملة‏.‏ والثالث‏:‏ أنها زائدة وبين مضافة إلى الزمن المذكور‏.‏

ويرد على هذا أيضاً ما ذكرنا، والصواب أن القولين الأخيرين فيهما قولٌ واحد‏.‏

وقال زين العرب‏:‏ هذه الألف عوض عن الأوقات المحذوفة، وكذلك ما عوضٌ عنها‏.‏

وهذا غير قوله الأول الذي جعله الحق عنده‏.‏

والحاصل أن في ألف بينا خمسة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ إشباعٌ لتهيئة بين للإضافة‏.‏

وثانيها‏:‏ أنها مجتلبة للكف عن الإضافة‏.‏

وثالثها‏:‏ أنها للعوض عن الأوقات المحذوفة‏.‏

ورابعها‏:‏ أنها بدلٌ من تنوين العوض‏.‏

وخامسها أنها بقية ما‏.‏ وهو أبعد الأقوال‏.‏

والجيد ما ذهب إليه الشارح المحقق‏.‏

والبيت أول بيتين لحرقة بنت النعمان بن المنذر، أوردهما أبو تمام في الحماسة، والرواية‏:‏ بينما نسوس بإسقاط الفاء على الحزم‏.‏ والثاني‏:‏

فأف لدنيا لا يدوم نعيمه *** تقلب تاراتٍ بنا وتصرف

تقول‏:‏ بينا نستخدم الناس وندبر أمورهم، وطاعتنا واجبةٌ عليهم، وأحكامنا نافذة، تقلبت الأمور، واتضعت الأحوال، وصرنا سوقة تخدم الناس‏.‏

ونسوس من ساس زيدٌ الأمر يسوسه سياسةً‏:‏ دبره وقام بأمره‏.‏ والسياسة لفظة عربية خالصة، زعم بعضهم أنها معرب سه يسا، وهي لفظة مركبة من كلمتين، أولاهما أعجمية، والأخرى تركية‏.‏ فسه بالفارسية ثلاثة، ويسا بالمغلية الترتيب، فكأنه قال‏:‏ التراتيب الثلاثة‏.‏

قال‏:‏ وسببه على ما في النجوم الزاهرة أن جنكزخان الملعون، ملك المغل، قسم ممالكه بين أولاده وأوصاهم بوصايا أن لا يخرجوا عنها، فجعلوها قانوناً فسموها بذلك‏.‏ ثم غيروها فقالوا‏:‏ سياسة‏.‏

وهذا شيء لا أصل له؛ فإنها لفظة عربية متصرفة تكلمت بها العرب قبل أن يخلق جنكزخان، فإنه كان في تاريخ الستمائة، وصاحبة هذا البيت قبله بأربعمائة سنة‏.‏ نعم لو قيل أفريدون بدل جنكزخان لكان له وجه، فإنه قسم مملكته بين أولاده الثلاث‏:‏ سلم، وتور، وإيرج، ورتب لهم قوانين ثلاثة‏.‏

وقوله‏:‏ والأمر أمرنا فيه قصر إفراد، تريد‏:‏ لا أحد يشاركنا في السلطنة ولا يد فوق أيدينا‏.‏

والسوقة بالضم، قال الحريري في درة الغواص‏:‏ ومنه أيضاً توهمهم أن السوقة اسمٌ لأهل السوق‏.‏ وليس كذلك، بل السوقة الرعية‏.‏ سموا بذلك لأن الملك يسوقهم إلى إرادته‏.‏

ويستوي لفظ الواحد والجماعة فيه، فيقال‏:‏ رجل سوقةٌ وقومٌ سوقة، كما قالت الحرقة بنت النعمان‏:‏ فبينا نسوق الناس‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت‏.‏

فأما أهل السوق فهم السوقيون، واحدهم سوقي، والسوق في كلام العرب تذكر وتؤنث‏.‏ انتهى‏.‏

والمشهور في رواية البيت‏:‏ بينا نسوس بدل نسوق‏.‏

ومثله في لحن العامة للجواليقي قال‏:‏ يذهب عوام الناس إلى أن السوقة أهل السوق، وذلك خطأ، إنما السوقة من ليس يملك، تاجراً كان وغير تاجر، بمنزلة الرعية‏.‏ وسموا سوقة لأن الملك يسوقهم فينساقون له، ويصرفهم على مراده‏.‏ يقال للواحد‏:‏ سوقة وللاثنين‏:‏ سوقة‏.‏ وربما جمع سوقا‏.‏

قال زهير‏:‏ البسيط

يطلب شأو امرأين قدما حسن *** نالا الملوك وبذا هذه السوقا

وأما أهل السوق فالواحد سوقي، والجماعة سوقيون‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل الصاغاني في العباب هذه العبارة، وزاد‏:‏ ويستوي فيه المذكر والمؤنث ‏.‏

ونتنصف بالبناء للفاعل، أي‏:‏ نخدم‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ نصفهم ينصفهم وينصفهم بضم الصاد وكسرها نصافاً ونصافة بكسرهما، أي‏:‏ خدمهم‏.‏ وكذلك تنصف‏.‏ والناصف‏:‏ الخادم، والجمع نصف بفتحتين، وكذلك المنصف بفتح الميم وكسرها‏:‏ الخادم، والجمع مناصف‏.‏

وظاهر تفسير ابن الشجري إياه، بقوله‏:‏ أي نستخدم ، أنه بالبناء للمفعول‏.‏

ووقع في بعض نسخ مغني اللبيب ليس ننصف بدل نتنصف، أي‏:‏ نعامل بالإنصاف‏.‏ ولم أر من روى كذا‏.‏

وقوله‏:‏ فأف لدنيا إلخ، أي‏:‏ تحقيراً لدنيا نعيمها يزول، وجمالها لا يدوم، بل تتحول وتتقلب بأهلها‏.‏ وتقلب وتصرف كلاهما مضارع والأصل‏:‏ تتقلب وتتصرف، أي‏:‏ تتغير‏.‏ وأف بكسر الفاء وفتحها وضمها‏.‏ وفيها لغات شرحها ابن جني في إعراب الحماسة‏.‏

وحرقة، بضم الحاء وفتح الراء المهملتين بعدها قاف، وهي بنت النعمان ابن المنذر اللخمي، ملك الحيرة بظهر الكوفة‏.‏ وهي امرأة شريفة شاعرة‏.‏ كذا ذكرها الآمدي في المؤتلف والمختلف‏.‏ وأنشد لها هذين البيتين‏.‏

ولحرقة هذه أخٌ اسمه حريق مصغر اسمها‏.‏ قال هانئ بن قبيصة يوم ذي قار‏:‏ المنسرح

أقسم بالله نسلم الحلقه *** ولا حريقاً وأخته حرقه

حتى يظل الرئيس منجدل *** ويقرع السهم طرة الدرقه

كذا ذكرها العسكري في كتاب التصحيف وأنشد لها البيتين وقال‏:‏ ولها خبر مع سعد بن أبي وقاص‏.‏

وذكرها الجاحظ في كتاب المحاسن والمساوي قال‏:‏ زعموا أن زياد بن أبيه مر بالحيرة فنظر إلى دير هناك، فقال لخادمه‏:‏ لمن هذا‏؟‏ قال‏:‏ دير حرقة بنت النعمان ابن المنذر‏.‏ فقال‏:‏ ميلوا بنا لنسمع كلامها‏.‏ فجاءت إلى وراء الباب فكلمها الخادم، فقال ها‏:‏ كلمي الأمير‏.‏ قالت‏:‏ أوجز، أم أطيل‏؟‏ قال‏:‏ بل أوجزي‏.‏ قالت‏:‏ كنا أهل بيتٍ طلعت الشمس علينا، وما على الأرض أحدٌ أعز منا، فما غابت تلك الشمس حتى رحمنا عدونا‏.‏ قال‏:‏ فأمر لها بأوساق من شعير، فقالت‏:‏ أطعمتك يدٌ شبعي جاعت، ولا أطعمتك يدٌ جوعى شبعت‏.‏

فسر زيادٌ فقال لشاعرٍ معه‏:‏ قيد هذا الكلام لا يدرس‏.‏ فقال‏:‏ الطويل

سل الخير أهل الخير قدماً ولا تسل *** فتًى ذاق طعم الخير منذ قريب

ويقال‏:‏ إن فروة بن إياس بن قبيصة انتهى إلى دير حرقة بنت النعمان، فألفاها وهي تبكي، فقال لها‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قالت‏:‏ ما من دارٍ امتلأت سروراً، إلا امتلأت بعد ذلك ثبوراً ثم قالت‏:‏

فبينا نسوس الناس والأمر أمرن ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيتين

قال‏:‏ وقالت حرقة بنت النعمان لسعد بن أبي وقاص‏:‏ لا جعل الله إلى لئيم حاجة، ولا زالت لكريمٍ إليك حاجة، وعقد لك المنن في أعناق الكرام، ولا أزال بك عن كريمٍ نعمة، ولا أزالها عنه بغيرك إلا جعلك سبباً لردها عليه‏.‏ انتهى‏.‏

وأورد خبر سعد بن أبي وقاص معها بأتم من هذا المعافى بن زكريا في كتاب الجليس بسنده إلى حسان بن أبان، قال‏:‏ لما قدم سعد بن أبي وقاص القادسية أميراً أتته حرقة بنت النعمان بن المنذر، في جوارٍ كلهن مثل زيها، يطلبن صلته‏.‏ فلما وقفن بين يديه، قال‏:‏ أيتكن حرقة‏؟‏ قلن‏:‏ هذه‏.‏ قال لها‏:‏ أنت حرقة‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، فما تكرارك استفهامي‏؟‏ إن الدنيا دار زوال، وإنها لا تدوم على حال، إنا كنا ملوك هذا المصر قبلك، يجبى إلينا خراجه، ويطيعنا أهله زمان الدولة، فلما أدبر الأمر وانقضى، صاح بنا صائح الدهر فصدع عصانا، وشتت ملأنا‏.‏ وكذلك الدهر يا سعد، إنه ليس من قومٍ بسرور وحبرة إلا والدهر معقبهم حسرة ثم أنشأت تقول‏:‏

فبينا نسوس الناس والأمر أمرن ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيتين

فقال سعد‏:‏ قاتل الله عدي بن زيد، كأنه ينظر إليها حيث يقول‏:‏

إن للدهر صولةً فأحذرنه *** لا تبيتن قد أمنت السرورا

قد يبيت الفتى معافًى فيرز *** ولقد كان آمناً مسرورا

وأكرمها سعدٌ وأحسن جائزتها، فلما أرادت فراقه، قالت له‏:‏ حتى أحييك بتحية أملاكنا بعضهم بعضاً‏:‏ لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زال الكريم عندك حاجة، ولا نزع من عبدٍ صالح نعمةً إلا جعلك سبباً لردها عليه فلما خرجت من عنده تلقاها نساء المصر، فقلن لها‏:‏ ما صنع بك الأكير‏؟‏ قالت‏:‏ الخفيف

حاط لي ذمتي وأكرم وجهي *** إنما يكرم الكريم الكريم

انتهى نقله من شرح أبيات المغني للسيوطي‏.‏

ونسب ابن الشجري في أماليه هذين البيتين إلى هند بنت النعمان بن المنذر‏.‏

ولعل حرقة يكون لقباً لهند وأختاً لها‏.‏ قال‏:‏ هند بنت النعمان، لها ديرٌ بظاهر الكوفة باقٍ إلى اليوم‏.‏ ولما كان المغيرة بن شعبة الثقفي والياً بالكوفة من قبل معاوية - وكان أحد دهاة العرب - أرسل إلى هند بنت النعمان يخطبها، وكانت قد عميت، فأبت وقالت‏:‏ والصليب ما في رغبة لجمال، ولا لكثرة مال، وأي رغبةٍ لشيخ أعور في عجوز عمياء ولكن أردت أن تفخر بنكاحي، فتقول‏:‏ تزوجت بنت النعمان بن المنذر فقال‏:‏ صدقت والله‏.‏ وأنشأ يقول‏:‏ الكامل

أدركت ما منيت نفسي خالي *** لله درك يا ابنة النعمان

فلقد رددت على المغيرة ذهنه *** إن الملوك ذكية الأذهان

إني لحلفك بالصليب مصدقٌ *** والصلب أصدق حلفة الرهبان

وكانت بعد ذلك تدخل عليه فيكرمها ويبرها‏.‏ وسألها يوماً عن حالها فأنشدت‏:‏

بينا نسوس الناس والأمر أمرن ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيتين

وروي أن المغيرة هذا أدمى ثمانين بكراً، ومات بالكوفة وهو أميرها، بالطاعون سنة خمسين‏.‏ انتهى‏.‏

وأورد هنداً هذه إسماعيل الموصلي في كتاب الأوائل قال‏:‏ أول امرأة أحبت امرأةً في العرب هند بنت النعمان بن المنذر، كانت تهوى زرقاء اليمامة، فلما قتلت الزرقاء ترهبت هند ولبست المسوح، وبنت لها ديراً يعرف بدير هند إلى الآن، وأقامت به حتى ماتت‏.‏

كذا ذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني الكبير‏.‏ وفيه نظر، فإن هند بنت النعمان ماتت في ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة، وزرقاء اليمامة من جديس، ولهم خبر مع طسم، وكانوا في زمن ملوك الطوائف، وبينهما زمان طويل‏.‏ فما أعلم من أين وقع لأبي الفرج هذا‏.‏ انتهى‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة

تمامه‏:‏

شلا كما يطرد الجمالة الشردا

على أن إذا فيه زائدة‏.‏ وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً قريباً‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد التاسع بعد الخمسمائة

الكامل‏؟‏ بينا تعنقه الكماة وروغه يوماً أتيح له جري سلفع على أنه يجوز إضافة بينا دون بينما إلى المصدر، كما في البيت‏.‏ والأعرف الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي‏:‏ تعنقه حاصلٌ‏.‏

أقول‏:‏ الأولى أن يقول‏:‏ حاصلان، لأن قوله‏:‏ وروغه معطوف على تعنقه‏.‏

وقوله‏:‏ يجوز إضافة بينا إلى المصدر، يعني إلى الأسماء المفردة إذا كان فيها معنى الفعل، حملاً على معنى حين، كقولك‏:‏ بينا قيام زيدٍ أقبل عمرو، أي‏:‏ حين قيام هذا أقبل ذاك‏.‏ فإن وقع بعدها اسم جوهرٍ لم يكن إلا رفعاً، نحو‏:‏ بينا زيدٌ في الدار أقبل عمرو، لأنها تضاف إلى جثة، كما لا تكون خبراً عنها‏.‏

والبيت لأبي ذؤيب الهذلي، من قصيدته المشهورة التي رثى بها أولاده، وكانوا خمسةً، وهلكوا في عام واحد، أصابهم الطاعون، وكانوا فيمن هاجر إلى مصر‏.‏

وقد تقدم شرح بعض منها في الشاهد السابع والستين‏.‏

قال الإمام المرزوقي في شرح هذه القصيدة‏:‏ روى الأصمعي‏:‏ بينا تعنقه وروغه مجروراً‏.‏ وكان يقول‏:‏ بينا يضاف إلى المصادر خاصة‏.‏ والنحويون يخالفونه ويقولون‏:‏ بينا وبينما عبارتان للحين، وهما مبهمتان لا تضافان إلا إلى الجمل التي تبينها‏.‏ فإذا قلت‏:‏ بينا أنا جالس طلع زيد، فالمعنى‏:‏ حين أنا جالس، ووقت أنا جالس طلع زيد‏.‏ وذكر سيبويه خاصة أن إذ تقع بعدهما للمفاجأة تقول‏:‏ بينما نحن نسير إذ أقبل زيد‏.‏

وكثير من النحويين والأصمعي ينكرون هذا ويقولون‏:‏ لا حاجة إلى إذ، ألا ترى أنك تقول‏:‏ حين زيدٌ جالس قام عمرو‏.‏ وبينما بمنزلة حين‏.‏ قالوا‏:‏ وأشعارهم وردت بلا إذ‏.‏ ومما استشهدوا به بيت أبي ذؤيب هذا وغيره‏.‏ ومما يستشهد به لسيبويه قوله‏:‏ الخفيف

بينما نحن بالكثيب ضحًى *** إذ أتى راكبٌ على جمله

فأما الخلاف الأول فمن شرط الأزمنة أن تضاف إلى الجمل وتشرح بها‏.‏ ورواية النحويين والناس‏:‏ بينا تعنقه الكماة فيرتفع تعنقه بالابتداء، ويكون خبره مضمراً، كأنه قال‏:‏ بينا تعنقه الأبطال حاصلٌ معهود، ومعتمد مألوف، أتيح له يوماً رجل جريء‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو علي في إيضاح الشعر‏:‏ أنشد ثعلبٌ أحمد بن يحيى قول الشاعر‏:‏ الكامل

بينا كذاك رأيتني متلفع *** بالبرد فوق جلالة سرداح

أضاف بينا إلى الكاف كما يضاف إلى المصدر في قوله‏:‏‏؟‏بينا تعنقه الكماة وروغه يوماً أتيح له جري سلفع وكما أضيفت مثلٌ إليها في قوله‏:‏ الرجز

فصيروا مثل كعصفٍ مأكول

ولا يكون الكاف حرفاً لأن الاسم لا يضاف إلى الحرف، وينبغي أن يجعل الكاف بمنزلة مثل في أنها تدل على أكثر من واحدٍ، كما أن مثلاً كذلك في نحو قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنكم إذاً مثلهم‏}‏ لأن بين تضاف إلى أكثر من واحد، ويجوز أن تكون الكاف زائدة كزيادتها في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ وذاك منجرةٌ، والمعنى الإضافة إلى ذاك‏.‏ وقد أضيفت بين إلى المبهم المفرد في نحو قوله سبحانه‏:‏ عوانٌ بين ذلك ‏.‏

فإن قدرت الإضافة إلى الفعل الذي هو رأيتني كما أضافه الآخر إليه في قوله‏:‏ البسيط

بينا أنازعهم ثوبي وأجذبهم *** إذا بنو صحفٍ بالحق قد وردوا

وكما أضيف إلى الجملة الاسمية في قوله‏:‏ الوافر

بينا نحن نطلبه أتان ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وفصلت بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، فهو وجه‏.‏ انتهى‏.‏

وهذه القصيدة أوردها المفضل في آخر المفضليات‏.‏ قال ابن الأنباري في شرحها‏:‏ وروى أبو عبيدة‏:‏

فيما تعنقه الكماة وروغه

جعل ما زائدة صلةً في الكلام، أي‏:‏ بينا يقتل ويراوغ إذ قتل‏.‏ وعلى هذا لا شاهد في البيت، ويكون تعنقه مجروراً بفي‏.‏ وضمير تعنقه راجع للمستشعر في بيتٍ قبل هذا بستة أبيات، وهو‏:‏

والدهر لا يبقى على حدثانه *** مستشعرٌ حلق الحديد مقنع

والدهر مبتدأ، وجملة لا يبقى إلخ، خبر المبتدأ‏.‏ وعلى بمعنى مع، والحدثان، بالتحريك‏:‏ مصدرٌ بمعنى الحدث والحادثة، ومستشعر فاعل يبقى، أي‏:‏ فارسٌ مستشعر، وهو اسم فاعل من استشعر الثوب والدرع، إذا لبسه شعاراً‏.‏ والشعار، بالكسر‏:‏ الملبوس الذي يلي شعر الجسد‏.‏

وروى‏:‏ متسربل، أي‏:‏ يتخذه سربالاً‏.‏ وحلق الحديد‏:‏ مفعول مستشعر، وأراد به الدرع‏.‏ والمقنع، بفتح النون المشددة‏:‏ الذي على رأسه المغفر وبيضة الحديد، قاله المرزوقي‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ المقنع‏:‏ اللابس المغفر‏.‏ والمغفر‏:‏ ثوبٌ تغطى به البيضة‏.‏ والمقنع‏:‏ الشاك السلاح التامه‏.‏ وحلق الحديد‏:‏ حلق الدرع‏.‏ ويروى‏:‏ سميدع‏:‏ وهو السيد‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ بينا تعنقه كذا في جميع الروايات، ووقع في الشرح وفي جمل الزجاجي وغيرهما‏:‏ تعانقه بالألف‏.‏

قال ابن السيد واللخمي‏:‏ هو خطأ، والصواب تعنقه، لأن تعانق لا يتعدى إلى مفعول، إنما يقال تعانق الرجلان، والمعانقة والاعتناق‏.‏ والتعنق هي المتعدية، ومعنى الجميع الأخذ بالعنق‏.‏ والاعتناق‏:‏ آخر مراتب الحرب؛ لأن أول الحرب الترامي بالسهام، ثم المطاعنة بالرماح، ثم المجالدة بالسيوف، ثم الاعتناق وهو أن يتخاطف الفارسان فيتساقطا إلى الأرض معاً‏.‏ وقد ذكر زهير بن أبي سلمى في قوله‏:‏ البسيط

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنو *** ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا

أراد‏:‏ أنه يزيد على ما يفعلون‏.‏

والكماة بالنصب مفعول تعنقه، جمع كمي، وهو الشجاع الذي ستر درعه بثوبه‏.‏ قال أبو زيد في نوادره‏:‏ الكمي‏:‏ الشديد الشجاع من كل دابة‏.‏

وقوله‏:‏ وروغه‏:‏ معطوف على تعنقه إن جراً وإن رفعاً، وهو بالغين المعجمة، وهو حيدته عن الأقران يميناً وشمالاً للتحفظ‏.‏

قال اللخمي‏:‏ ومن روى بالعين المهملة فمعناه الفزع‏.‏

وقوله‏:‏ يوماً هو بدل من بينا، كما قاله ابن جني في قوله‏:‏

بينا هم بالظهر قد جلسو *** يوماً بحيث تنزع الذبح

وقد تقدم بيانه قريباً في شرح البيت الذي قبل هذا‏.‏ وقال اللخمي‏:‏ العامل في يومٍ تعنقه، ويحتمل أن يكون الروغ، ويحتمل أن يكون أتيح، والأول أقوى لترك تكلف التقديم‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وقوله‏:‏ أتيح‏:‏ هو جواب بينا، وهو العامل فيه، بمعنى قدر، مجهول أتاح الله له الشيء، أي‏:‏ قدره له، وهو بالحاء المهملة‏.‏ وجريء، بالهمز‏:‏ فعيل من الجراءة‏.‏ والسلفع كجعفر‏:‏ الجريء الواسع الصدر‏.‏ ويقال‏:‏ للمرأة إذا كانت جريئةً سلفع‏.‏

وقال المرزوقي‏:‏ وأكثر من يوصف به النساء، ويستعمل فيهن بغير هاء، والمعنى‏:‏ أن هذا المستشعر الدرع حزماً، وقت معانقته للأبطال ومراوغته للشجعان، قدر له رجلٌ هكذا، وقيض له فارسٌ شجاع مثله، فاقتتلا حتى قتل كل واحد منهما صاحبه‏.‏ ومراده أن الشجاع لا تعصمه جراءته من الهلاك، وأن كل مخلوق فالفناء غايته‏.‏

وأبو ذؤيب، شاعرٌ إسلامي مخضرم، تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد العاشر بعد الخمسمائة

الطويل

وكان إذ ما يسلل السيف يضرب

على أن بعضهم قال‏:‏ يجازي ب إذا ما، فيجزم الشرط والجزاء، كما جزم يسلل، وكسرة اللام التقاء الساكنين، وجزم يضرب، وكسرة الباء للروي‏.‏ والرواية‏:‏ متى ما‏.‏

قال شارح اللباب‏:‏ قد نقل عن بعضهم أنه جوز الجزم بإذا مكفوفة بما، وأنشد للفرزدق‏:‏

وكان إذا ما يسلل السيف يضرب

ومن منعه، قال‏:‏ الرواية‏:‏ متى ما يسلل‏.‏ انتهى‏.‏

ورواية متى ما، هي رواية حمزة الأصبهاني في أمثاله‏.‏

وذهب ابن يعيش في شرح المفصل إلى أن الجزم بها في الشعر قليل‏.‏ وأنشد هذا الشعر‏.‏

وقال أبو علي‏:‏ كان القياس أن تكف ما إذا عن الإضافة، كما كفت حيث وإذ لما جوزي بهما، إلا أن الشاعر إذا ارتكب الضرورة استجاز كثيراً مما لا يجوز في الكلام‏.‏

وإنما جاز المجازاة بإذا ما في الشعر لأنها قد ساوقت إن في الاستفهام، إذ كان وقتها غير معلوم، فأشبهت بجهالة وقتها ما لا يدرى أن يكون، أم لا يكون‏.‏ فاعرفه‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل أبو حيان في تذكرته أن الصيمري ذهب إلى أنها تكف بما مثل إذ فتجزم، كبيت الفرزدق‏.‏ قال‏:‏ وقد جاء بعدها ولم تجزم، قال‏:‏ الخفيف

وإذا ما تشاء تبعث منها

ويجوز دخول الفاء على جوابها، قال الفرزدق‏:‏ الوافر

إذا ما قيل يا لحماة قومٍ *** فنحن بدعوة الداعي دعينا

وذهب أبو علي في مثل هذا إلى أن إذا غير معمولة، لأنه لما جاءت الفاء في جوابها صارت بمنزلة إن، وتلك لا يعمل فيها الفعل‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا المصراع من قصيدةٍ للفرزدق‏.‏ وهذه أبيات منها‏:‏

لعمري لقد أوفى وزاد وفاؤه *** على كل جارٍ جار آل المهلب

كما كان أوفى إذ ينادي ابن ديهثٍ *** وصرمته كالمغنم المنتهب

فقام أبو ليلى إليه ابن ظالمٍ *** وكان إذا ما يسلل السيف يضرب

وما كان جارٌ غير دلوٍ تعلقت *** بحبلين في مستحصد القد مكرب

روى الأصبهاني بسنده في الأغاني أن الحارث بن ظالم المري لما كان نزيلاً عند النعمان بن المنذر أخذ مصدقٌ للنعمان إبلاً لامرأة من بني مرة، يقال لها‏:‏ ديهث، فأتت الحارث فعلقت دلوها بدلوه، ومعها بني لها، فقالت‏:‏ يا أبا ليلى، إني أتيتك مضافة فقال‏:‏ إذا أورد القوم النعم فنادي بأعلى صوتك‏:‏ الرجز

دعوت بالله ولم تراعي *** ذلك راعيك فنعم الراعي

وتلك ذود الحارث الكساع *** يمشي لها بصارمٍ قطاع

يشفي به مجامع الصداع

وخرج الحارث بن ظالم في إثرها، وهو يقول‏:‏ الرجز

أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب *** كم قد أجرنا من حريبٍ محروب

وكم رددنا من سليبٍ مسلوب *** وطعنةٍ طعنتها بالمضبوب

ذاك جهيز الموت عند المكروب

ثم قال‏:‏ لا يردن عليك ناقةٌ ولا بعيرٌ تعرفينه إلا أخذته ففعلت، ورأت لقوحاً لها يحلبها حبشي، فقالت‏:‏ يا أبا ليلى، هذه لي‏.‏ قال الحبشي‏:‏ كذبت‏.‏ فقال الحارث بن ظالم‏:‏ أرسلها ويلك فضرط الحبشي، فقال الحارث‏:‏‏:‏است الحالب أعلم فصارت مثلاً‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ ففي ذلك يقول الفرزدق‏.‏ وأنشد الأبيات‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ لعمري لقد أوفى هو لغة في‏:‏ وفى بالعهد، كوعى، وفاءً‏:‏ ضد غدر‏.‏ والجار‏:‏ المجير، والمستجير، والمجاور الذي أجرته من أن يظلم؛ فهو ضد‏.‏ والمراد هنا الأول‏.‏

وفاعل أوفى الأول ضمير سليمان بن عبد الملك، فإنه أجار يزيد بن المهلب من الحجاج لما هرب من حبسه، وجاء إليه، فأرسله مع ابنه أيوب إلى أخيه الوليد بن عبد الملك، وكتب إليه يشفع فيه، فقبل شفاعته‏.‏

وفاعل أوفى الثاني‏:‏ ضمير أبي ليلى، تنازعه هو وقام‏.‏ وابن ديهث‏:‏ فاعل ينادي‏.‏ وصرمته‏:‏ مبتدأ، وكالمغنم‏:‏ خبره، والمتنهب‏:‏ صفته، حال من ابن‏.‏

والصرمة، بالكسر‏:‏ القطعة من الإبل ما بين العشرين إلى الثلاثين وإلى الخمسين، وقيل غير ذلك‏.‏ والمغنم‏:‏ الغنيمة‏.‏ والمتنهب‏:‏ اسم مفعول‏.‏

وأبو ليلى‏:‏ كنية الحارث بن ظالم، وهو جاهلي‏.‏ والقيام هنا هو العزم على الشيء والإتيان به على أكمل هيئاته‏.‏

والمعنى‏:‏ قام لينصره ويأخذ بساعده‏.‏ وجملة‏:‏ وكان إذا ما يسلل إلخ، معطوفة على قام، وإنها اعتراضية أفاد بها أن شأنه كان كذا‏.‏ واسم كان ضمير أبو ليلى، والجملة الشرطية خبر كان‏.‏

وجملة‏:‏ وما كان جار إلخ، حال من أبو ليلى‏.‏ والجار هنا المستجير، وهو اسم كان، وغير دلوٍ خبرها‏.‏ والقد بالكسر‏:‏ السير يقد من جلد غير مدبوغ‏.‏ والمستحصد اسم مفعول من استحصد الحبل إذا استحكم فتله وربطه‏.‏ والمكرب‏:‏ اسم مفعول، من أكرب الدلو، إذا شدها بالكرب، بفتحتين، وهو حبل يشد في وسط عرقوة الدلو ليلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير‏.‏ ويقال أيضاً‏:‏ كربها وكربها، كما يقال‏:‏ أكربها‏.‏

والمصدق كمحدث‏:‏ آخذ الصدقات‏.‏ ومضامة‏:‏ اسم مفعول من الضيم وهو الجور‏.‏ ومجامع الصداع هو الرأس، لأنه محل الصداع‏.‏ والمعلوب بالعين المهملة‏:‏ اسم سيفه‏.‏

والحارث بن ظالم المري جاهلي، ضرب المثل بفتكه، فقيل‏:‏ أفتك من الحارث بن ظالم ‏.‏

فمن خير فتكه ما رواه حمزة الأصبهاني والزمخشري في أمثالهما، أن الحارث بن ظالم قتل خالد بن جعفر بن كلاب، وكان جاراً للأسود بن المنذر، أخي النعمان بن المنذر وهرب، فقيل له‏:‏ لن تصيبه بشيءٍ كسبي جاراتٍ له من بلي، وهو حي من قضاعة ففعل فسمع ذلك الحارث فكر راجعاً من مهربه، وأتى مرعى إبلهم إذا ناقةٌ لهن تدعى اللفاع تحلب، فقال يخاطب الإبل‏:‏ الرجز

إذا سمعت حنة اللفاع *** فادعي أبا ليلى ولا ترتاعي

ذلك راعيك فنعم الراعي

فعرفه البائن فحبق خوفاً، وأنكره المستعلي، فقال الحارث‏:‏ است البائن أعلم ثم استنقذهن وأموالهن، وأتى أخته سلمى، وقد تبنت شرحبيل بن الأسود الملك، فمكر بها وأخذه منها وقتله، فضرب به المثل في الفتك‏.‏

والبائن‏:‏ الذي يكون عند يمين الحلوبة‏.‏ والمستعلي على يسارها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ قولهم‏:‏ است البائن أعلم ، مثلٌ يضرب لمن ولي أمراً، وصلي به، فهو أعلم به من غيره‏.‏ وقيل يضرب لكل ما ينكر، وشاهده حاضر‏.‏

وترجمة الفرزدق قد تقدمت في الشاهد الثلاثين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الحادي عشر بعد الخمسمائة

من أين عشرون لها من أنى

على أن أنى تجر بمن ظاهرة، كما في البيت، ومقدرة كما قدره الشارح المحقق‏.‏

وهذا البيت من أرجوزة رواها أبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد عن ثعلب، وهي‏:‏ الرجز

لأجعلن لابنة عثمٍ فن *** من أين عشرون لها من أنى

حتى يصير مهرها دهدن *** يا كرواناً صك فاكبأنا

فشن بالسلح فلما شن *** بل الذنابى عبساً مبنا

أإبلي تأخذها مصن *** خافض سن ومشيلاً سنا

وروى أبو زيد في نوادره البيت الأول والثالث فقط، وروى‏:‏ زيد بدل عثم، الدهدن‏:‏ الباطل‏.‏ والفن‏:‏ العناء‏.‏ يقال‏:‏ فننت الرجل، إذا عنيته، أفنه فناً‏.‏ انتهى‏.‏

فالدهدن بضم الدالين‏.‏ والفن فعله من باب نصر‏.‏ قال الأخفش‏:‏ روى المبرد وثعلب‏:‏

لأجعلن لابنة عثمٍ فنا

قالا‏:‏ أراد عثمان، وهذا يدلك على أن الألف والنون في عثمان زائدتان، فحذفهما لما اضطر، وفتح أوله ليدل على ما حذف‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ يريد بقوله‏:‏ فناً، ضرباً من الخصومة‏.‏

وقوله‏:‏ يا كرواناً قال الأخفش‏:‏ ترك مخاطبتها ثم أقبل على وليها، كأنه قال‏:‏ يا رجلاً كرواناً، أي‏:‏ يا مثل الكروان بضعفه، إنما يدفع عن نفسه بسلحه إذا صك، أي‏:‏ ضرب‏.‏ والاكبئنان‏:‏ التقبض‏.‏ وشن‏:‏ صب، والعبس‏:‏ ما تعلق بذنبه، وما يليه من سلحه‏.‏ والمبن‏:‏ المقيم، يقال‏:‏ أبن بالمكان، إذا أقام به‏.‏ والمصن‏:‏ المتكبر‏.‏

وقوله‏:‏ خافض سن ومشيلاً ، أخبرني أبو العباس ثعلب عن الباهلي عن الأصمعي أنه قال‏:‏ تأويله أنه إذا أعطاه حقاً طلب منه جذعاً، وإذا أعطاه سديساً طلب منه بازلاً‏.‏

وحكي لي من ناحية أخرى عن الأصمعي، أنه قال‏:‏ إذا أخذ وليها ما يدعي كثر ماله، واستغنى، فأكل بنهمٍ وشره، فذلك قوله‏:‏ خافض سن ومشيلاً سناً‏.‏

ويقال‏:‏ شال الشيء، إذا ارتفع، وأشلته وشلت به، إذا رفعته‏.‏

وحدثنا أبو العباس ثعلب قال‏:‏ حدثني ابن الأعرابي أنه شاهد أبا عبيدة مرة واحدة، فأخطأ في ثلاثة أحرف، هذا منها‏.‏ وذلك أنه قال‏:‏ شلت الحجر، والعرب لا تقول إلا‏:‏ أشلته وشلت به‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وقد يكون شلت به‏:‏ ارتفعت به‏.‏ انتهى‏.‏

وقد أورد ابن السكيت في إصلاح المنطق الأبيات الخمسة الأخيرة من قوله‏:‏ يا كرواناً صك إلخ، وقال‏:‏ هي في مصدق هجي بها، أي‏:‏ في عامل الزكاة، ثم قال‏:‏ قوله‏:‏ خافض سن ومشيلاً سنا ، أي‏:‏ تأخذ بنت لبون فتقول‏:‏ هذه بنت مخاض، فقد خفضها عن سنها التي هي فيها‏.‏

وقوله‏:‏ ومشيلاً سنا يقول‏:‏ تكون له بنت مخاض فيقول‏:‏ لي بنت لبون‏:‏ فقد رفع السن التي هي له إلى سن أخرى أعلى منها‏.‏ وتكون ابنة لبونٍ فأخذ حقةً‏.‏ انتهى‏.‏

وأورد ابن السيرافي في شرح أبياته الأبيات الثلاثة المتقدمة أيضاً وقال‏:‏ الرجز لمدرك بن حصين، وقال‏:‏ قوله‏:‏ فنا، أي‏:‏ أمراً عجباً‏.‏ وقوله‏:‏ من أين عشرون لها ، أي‏:‏ من الإبل‏.‏ والدهدن‏:‏ الباطل، وكذلك الدهدر‏.‏ وقوله‏:‏ يا كرواناً شبهه بالكروان‏.‏ واكبأن‏:‏ تقبض واجتمع وسلح من خوفه‏.‏

وشن‏:‏ فرق سلحه‏.‏ والمبن‏:‏ الذي لصق بالذنابى ويبس عليها‏.‏ والمصن‏:‏ المتكبر والمنتن أيضاً، واللازم للشيء لا يفارقه أيضاً‏.‏ والمشيل‏:‏ الرافع، ويقال‏:‏ أشال يشيل إشالةً، إذا رفع‏.‏ انتهى‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني عشر بعد الخمسمائة

الطويل

صريع غوانٍ راقهن ورقنه *** لدن شب حتى شاب سود الذوائب

على أن لدن مجرورة بمن مضمرة، أي‏:‏ من لدن شب‏.‏ وأورده في لدن أيضاً على أنها إن أضيفت إلى الجملة تمحضت للزمان‏.‏

والبيت من قصيدة للقطامي، وتقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة‏.‏ وهذه أبيات من أولها‏.‏

نأتك بليلى نيةٌ لم تقارب *** وما حب ليلى من فؤادي بذاهب

منعمةً تجلو بعود أراكة *** ذرى بردٍ عذبٍ شتيت المناصب

كأن فضيضاً من غريض غمامةٍ *** على ظمأٍ جادت به أم غالب

لمستهلكٍ قد كاد من شدة الهوى *** يموت ومن طول العدات الكواذب

صريع غوانٍ راقهن ورقنه *** لدن شب حتى شاب سود الذوائب

قديديمة التجريب والحلم إنني *** أرى غفلات العيش قبل التجارب

قوله‏:‏ نأتك بليلى نية إلخ، قال شارح ديوانه‏:‏ أي بعدت عنك‏.‏ غذاءً ناعماً‏.‏ وتجلو، أراد تستاك‏.‏ والذرى‏:‏ الأعالي‏.‏ والبرد‏:‏ بفتحتين حب الغمام‏.‏

شبه أسنانها في شدة بياضها بالبرد‏.‏ وإنما خص الذرى لأنها صحاح لم تتكسر‏.‏ وشتيت‏:‏ متفرق‏.‏ أراد أن في أسنانها فلجاً‏.‏ والمناصب‏:‏ حيث ركبت الأسنان‏.‏

وقوله‏:‏ كأن فضيضاً إلخ، فضيض السحابة‏:‏ ماؤها إذا انفض منها‏.‏ شبه عذوبة ريقها بماء سحابة‏.‏ والغريض‏:‏ الطري‏.‏ وقوله‏:‏ لمستهلك إلخ، اللام متعلقة بجادت، وأراد بالمستهلك نفسه؛ لأنه هالكٌ من حبها ومعرضها للهلاك‏.‏

وقوله‏:‏ صريع غوان بالجر‏:‏ بدلٌ من مستهلك، ويجوز رفعه على إضمار مبتدأ ضمير المستهلك‏.‏ والصريع‏:‏ المصروع، وهو المطروح على الأرض‏:‏ يريد أنه قد أصيب من حبهن حتى لا حراك به‏.‏ والغواني‏:‏ جمع غانية، وهي التي استغنت بجمالها عن الزينة، وقيل‏:‏ هي التي غنيت بزوجها عن غيره، وقيل‏:‏ هي التي غنيت في بيت أبويها ولم تتزوج، أي‏:‏ أقامت‏.‏ وأنشد أبو عبيدة للقول الثاني‏:‏ البسيط

أزمان ليلى كعابٌ غير غانيةٍ *** وأنت أمرد معروفٌ لك الغزل

وراق بمعنى أعجب، أي‏:‏ أعجبهن لجماله وشبابه، وأعجبنه لحسنهن‏.‏

وقوله‏:‏ لدن شب إلخ، أي‏:‏ من عند وقت شبابه إلى وقت شيبه، فدل على إضمار من بدليل حتى، لأنها بمعنى إلى‏.‏ والذوائب‏:‏ الضفائر من الشعر، جمع ذؤابة‏.‏

وقد لقب القطامي صريع الغواني بهذا البيت، وهو أول من لقب به، وقد ذكر في الأوليات، ثم لقب به مسلم بن الوليد‏.‏ قال صاحب زهر الآداب‏:‏ لقب مسلم صريع الغواني بقوله‏:‏ الطويل

هل العيش إلا أن تروح مع الصب *** صريع حميا الكأس والأعين النجل

انتهى‏.‏

قال صاحب الأغاني‏:‏ الذي لقب مسلماً بهذا اللقب هارون الرشيد، لهذا البيت‏.‏

وقوله‏:‏ قديديمة التجريب إلخ، وهو من أبيات سيبويه، وجمل الزجاجي، استشهد به على تصغير قدام قديديمة بالهاء‏.‏ ومثلها وريئة‏.‏ وإنما أدخلوا الهاء في تصغير وراء وقدام، وإن كانت قد جاوزتا ثلاثة أحرف، لأن باب الظروف التذكير، فلما شذتا في بابهما فرقوا بينهما وبين غيرهما، فأدخلوا فيهما علامة التأنيث‏.‏ قاله اللخمي‏.‏

وقديديمة‏:‏ منصوبةٌ على الظرف، والعامل فيها‏:‏ راقهن ورقنه، أي‏:‏ أعجبهن وأعجبنه‏.‏ قديديمة التجريب والحلم، أي‏:‏ أمام التجريب والحلم‏.‏

ثم قال‏:‏ أرى غفلات العيش قبل التجارب، يقال‏:‏ إنما يستلذ بالعيش أيام الغفلة وفي أيام الشباب قبل التجارب، والتجارب إنما هي في الكبر، وهو وقت أن يزهد فيهن لسنه وتجريبه، وأن يزهدن فيه لشيبه‏.‏

وقد يحتمل أن يكون العامل في قديديمة محذوفاً دل عليه سياق الكلام، كأنه أراد‏:‏ تظن طيب العيش ولذته قدام التجربة والحلم، أي‏:‏ أمام ذلك، ليس الأمر كذلك، إنما يطيب العيش ويحسن قبل التجارب، وفي عنفوان الشباب، وحين الغفلة، وأما بعد ذلك فلا‏.‏ فيكون العامل فيها تظن المقدر‏.‏ قاله اللخمي أيضاً‏.‏

وقوله‏:‏ إنني قال ابن السيد‏:‏ يروى بكسر الهمزة على الاستئناف، وبفتحها، وهو مفعول من أجله‏.‏ وقد تكون إن مكسورة وفيها معنى المفعول من أجله، كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويصلى سعيراً إنه كان في أهله مسروراً‏}‏‏.‏

وجاز ذلك لأن إن داخلة على الجمل، والجملة قد يكون فيها معنى العلة والسبب موجوداً‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاتقون‏}‏‏.‏ ألا ترى أن المعنى‏:‏ ولأن هذه أمتكم ولكوني ربكم فاتقون‏.‏ انتهى‏.‏

وهذه القصيدة هجو امرأةٍ من بني محارب‏.‏ حكى أبو عمرو الشيباني أن القطامي نزل في بعض أسفاره بامرأة من محارب بن قيس فاستقراها، فقالت‏:‏ أنا من قومٍ يشتوون القد من الجوع‏.‏ قال‏:‏ ومن هؤلاء ويحك‏؟‏ قالت‏:‏ محارب‏.‏ ولم تقره، فبات عندها بأشر ليلةً، فقال هذه القصيدة، ومنها‏:‏ الطويل

وإني وإن كان المسافر نازل *** وإن كان ذا حق على الناس واجب

فلا بد أن الضيف مخبر ما رأى *** مخبر أهلٍ ومخبر صاحب

لمخبرك الأنباء عن أم منزلٍ *** تضيفتها بين العذيب فراسب

تلفعت في طل وريحٍ تلفني *** وفي طرمساء غير ذات كواكب

إلى حيزبونٍ توقد النار بعدم *** تلفعت الظلماء من كل جانب

فما راعها إلا بغام مطيتي *** تريح بمحسورٍ من الصوت لاغب

تقول وقد قربت كوري وناقتي‏:‏ *** إليك فلا تذعر علي ركائبي

وجنت جنوناً من دلاثٍ مناخةٍ *** ومن رجلٍ عاري الأشاجع شاحب

فسلمت والتسليم ليس يسره *** ولكنه حقعلى كل جانب

فردت سلاماً كارهاً ثم أعرضت *** كما انحازت الأفعى مخافة ضارب

فقلت لها‏:‏ لا تفعلي ذا براكبٍ *** أتاك مصيبٍ ما أصاب فذاهب

فلما تنازعنا الحديث سألته *** من الحي قالت‏:‏ معشرٌ من محارب

من المشتوين القد مما تراهم *** جياعاً وريف الناس ليس بناضب

فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن *** علي مناخ السوء ضربة لازب

وقمت إلى مهريةٍ قد تعودت *** يداها ورجلاها خبيب المواكب

ثم وصف ناقته بأبيات، وقال‏:‏

ألا إنما نيران قيسٍ إذا شتو *** لطارق ليلٍ مثل نار الحباحب

والعذيب‏:‏ ماء أسفل الرحبة‏.‏ وراسب‏:‏ قريبٌ منه‏.‏ والطل‏:‏ الندى‏.‏ والطرمساء، بالكسر‏:‏ الظلمة‏.‏

والحيزبون‏:‏ العجوز‏.‏ والبغام، بالضم‏:‏ صوت تختلسه الناقة ولا تتمه‏.‏ والمحسور‏:‏ صوتٌ ضعيف‏.‏

وتريح، بالضم‏:‏ تستريح‏.‏ والكور، بالضم‏:‏ الرحل بأداته‏.‏ والدلاث‏:‏ بالكسر‏:‏ الناقة‏.‏ والأشاجع‏:‏ عروق ظاهر الكف‏.‏ والجانب‏:‏ الغريب‏.‏ والناضب، بالضاد المعجمة‏:‏ البعيد‏.‏ ومما تراهم، أي‏:‏ كثيراً مما تراهم‏.‏

ونار الحباحب، بالضم‏:‏ النار التي تظهر من قرع الحوافر‏.‏ أراد أنها ضعيفة لا يشعلونها خوفاً من الضيف‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثالث عشر بعد الخمسمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

فأصبحت أنى تأتها تبتئس به *** كلا مركبيها تحت رجليك شاجر

على أن أنى فيه شرطية مجرورة بمن مضمرة، أي‏:‏ من أنى تأتها‏.‏

قال سيبويه‏:‏ ومما جاء بأنى من الجزاء قول لبيد‏:‏

فأصبحت أنى تأته ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه جزم تأتها ب أنى؛ لأن معناها معنى أين ومتى، وكلاهما للجزاء‏.‏ وتبتئس جزمٌ على جوابها‏.‏

قال أبو الحسن الطوسي في شرح ديوان لبيد قال الأصمعي‏:‏ لم أسمع أحداً يجازى بأنى، وأظنه أراد أياً تأتها، يريد أي جانبي هذه الناقة أتيته وجدت مركبه تحت رجلك شاجراً، أي‏:‏ ينحيك ويدفعك، لا يطمئن تحت رجلك‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ أنى تأتها مجازاة، يقول‏:‏ من أي جانبٍ أتيت هذه الناقة وجدت كلا مركبيها شاجراً دافعاً لك‏.‏ وتبتئس‏:‏ يصبك منها بؤسٌ‏.‏ يقول‏:‏ كيفما ركبت منها التبس عليك الأمر‏.‏

وشاجرٌ‏:‏ ملتبس‏.‏ يقال‏:‏ شاجر ما بين القوم‏:‏ إذا اختلفوا‏.‏ ويقال‏:‏ شجره بالرمح، إذا دفعه به وطعنه‏.‏

وقال أبو عمرو‏:‏ الشاجر‏:‏ المفرق بين رجليه، وقد شجر بين رجليه، إذا فرق بينهما إذا ركب‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا مبني على إرجاع الضمائر المؤنثة إلى الناقة المفهومة من المقام‏.‏

وكذلك قال ابن سيده في شرح أبيات الجمل‏.‏ ولم يرتضه اللخمي في شرحها‏.‏ قال‏:‏ قد غلط ابن سيده شارح الأبيات في البيت، وزعم أنه يصف ناقة، وإنما يصف داهيةً‏.‏ ولو علم ما قبله علم الموصوف ما هو‏.‏ قال لبيد يصف حاله مع عمه، ويعتب عليه، ويذكر قبيح ما أسداه إليه‏:‏

لي النصر منكم والولاء عليكم *** وما كنت فقعاً أنبتته القراقر

وأنت فقيرٌ لم تبدل خليفةً *** سواي ولم يلحق بنوك أصاغر

فقلت ازدجر أحناء طيرك واعلمن *** بأنك إن قدمت رجلك عاثر

وإن هوان الجار للجار مؤلمٌ *** وفاقرةٌتأوي إليها الفواقر

فأصبحت أنى تأته ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

فإن تتقدم تغش منها مقدم *** غليظاً وإن أخرت فالكفل فاجر

والفاقرة‏:‏ الداهية التي تكسر فقار الظهر، وهي التي يصف في البيت‏.‏ شبهها بالدابة الشموس التي إذا ركبها رمته عن ظهرها‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ البيت الذي فيه الفاقرة غير ثابتٍ في رواية الطوسي، فيجوز أن يكون ابن سيده تبعه‏.‏ على أن هذا لا يسمى غلطاً فإنه تمثيل، سواء قيل داهية وناقة ومركب‏.‏

قال ابن السيد في شرحه‏:‏ العرب تشبه التنشب في العظائم بالركوب على المراكب الصعبة، فيقولون‏:‏ ركبت مني أمراً عظيماً، ولقد ركبت مركباً صعباً، وفلانٌ ركاب العظائم‏.‏

ونحوه قول الشاعر‏:‏ الطويل

لئن جد أسباب التقاط بينن *** لترتحلن مني على ظهر شيهم

انتهى‏.‏

وروى‏:‏ تشتجر بدل تبتئس، قال ابن السيد‏:‏ معناه تشتبك، ويروى‏:‏ تلتبس، ومعناه كمعنى تشتجر‏.‏ وشاجر‏:‏ مشتبك‏.‏ وقال اللخمي‏:‏ تشتجر مأخوذ من شجر الراكب، إذا خالف بين رجليه، فرفع رجلاً ووضع أخرى، وهي ركبةٌ متهيئة للسقوط‏.‏ ويروى‏:‏ تبتئس من بؤس الحال‏.‏

ويروى أيضاً‏:‏ تلتبس‏.‏ ومركبيها‏:‏ ناحيتيها اللتين ترام منهما‏.‏ وشاجر‏:‏ مضطرب‏.‏

يقول‏:‏ من ركبها فرقت بين رجليه فهوت به‏.‏ ويروى‏:‏ شاغر، والمعنى واحد‏.‏

يعتب عمه عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وكان قد ضرب جاراً للبيدٍ بالسيف، فغضب لبيد لذلك، فقال الشعر الذي تقدم، يعدد بلاءه عنده‏.‏ وفي الشعر ما يدل على ذلك، وهو‏:‏

من يك عني جاهل ومغمر *** فما كان بدعاً من بلائي عامر

وفي كل يومٍ ذي حفاظٍ بلوتني *** فقمت مقاماً لم يقمه العواور

وكلا مبتدأ، والخبر شاجر‏.‏ وتحت رجليك متعلق بشاجر‏.‏ وكلا عند سيبويه اسمٌ مفردٌ‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ رجليك بالتثنية، وروي بالإفراد‏.‏ قال ابن السيد‏:‏ ويروى‏:‏ رحلك، والرحل للناقة مثل السرج للفرس‏.‏ والكفل بالكسر‏:‏ كساءٌ يكون وراء الرحل، فيركب عليه الرديف‏.‏ يقال‏:‏ رحلت البعير واكتفلته، أي‏:‏ جعلت عليه رحلاً وكفلاً، وهما المركبان اللذان ذكرهما‏.‏

ومعنى الشعر أنه يقول لعمه‏:‏ إنك ركبت أمراً لا خلاص لك منه، فأنت بمنزلة من ركب ناقةً صعبة لا يقدر على النزول عنها سالماً، لأن رجليه قد اشتبكتا بركابيها، وكلا مركبيها لا يستقر عليه، إن ركب على مركبها المقدم، وهو الرحل، وجده مركباً صعباً، وإن ركب على مركبها المؤخر، وهو الكفل، مال به وصرعه‏.‏

والفاجر‏:‏ المائل غير المستقيم‏.‏

وكان للبيدٍ جارٌ من بني القين قد لجأ إليه واعتصم به، فضربه عمه بالسيف، فغضب لذلك لبيد، وقال يعدد على عمه بلاءه عنده وينكر فعله بجاره‏.‏ وأنشد الأبيات السابقة‏.‏

وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل‏:‏ قوله فأصبحت أنى تأتها، أي‏:‏ متى أتيت هذه التي وقعت فيها تلتبس بها، أي‏:‏ تلتبس بمكروهها شرها‏.‏

ويروى‏:‏ تبتئس، أي‏:‏ لا يقربك الناس من أجلها‏.‏ وكلا مركبي الخطة إن تقدمت، وتأخرت شاجر، أي‏:‏ مختلف متفرق‏.‏ والشاجر‏:‏ الذي قد دخل بعضه في بعض وتغير نظامه‏.‏ وأراد بالمركبين قادمة الرحل وآخرته‏.‏ وعلى هذا طريق المثل‏.‏

يقول‏:‏ لا تجد في الأمر الذي تريد أن تعمله مركباً وطيئاً، ولا رأياً صحيحاً، أي‏:‏ موضعك إن ركبت منه آذاك، وفرق بين رجليك ولم تثبت عليه، ولم تطمئن‏.‏ هذا كلامه‏.‏ وهذا بحروفه هو كلام بعض فضلاء العجم على أبيات المفصل‏.‏

ولم يورد أبو الحسن الطوسي سبب هذه القصيدة، وعدتها عنده ثلاثة وعشرون بيتاً‏.‏

ولنذكر ما شرح به الأبيات السابقة‏:‏ قوله‏:‏ من يك عني جاهلاً ، رواه الطوسي‏:‏ من كان مني جاهلاً ‏.‏ وهذا أول القصيدة‏.‏ يقول‏:‏ من كان يجهلني فإن عمي عامراً يعرف بلائي‏.‏ وبلاؤه‏:‏ صنيعه وعمله‏.‏ وعامر هو ملاعب الأسنة‏.‏

والمغمر‏:‏ المنسوب إلى الغمر، بالضم وهو الجهل‏.‏ والبدع، بالكسر‏:‏ كل حديث أحدث، أي‏:‏ ليس عامرٌ ببدعٍ من بلائي، أي‏:‏ بأول ما عرف ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ وفي كل يوم إلخ، هو البيت الرابع عشر من القصيدة‏.‏ والعواور‏:‏ الجبناء والضعفاء، جمع عوار بالضم والتشديد‏.‏

وبعده قوله‏:‏ لي النصر منكم إلخ، والرواية عند الطوسي‏:‏ لي النصر منهم والولاء عليكم بالغيبة في الأول، والخطاب في الثاني، وقال‏:‏ منهم، أي‏:‏ من هؤلاء الملوك وأردافهم الذين ذكروا‏.‏ والولاء عليكم، يقول‏:‏ يوالوني عليكم‏.‏ والفقع‏:‏ ضربٌ من الكمأة، وهو شرها‏.‏ والقرقر كجعفر‏:‏ الأرض المستوية‏.‏ وفي المثل‏:‏ أذل من فقع بقرقرٍ ‏.‏ يقول‏:‏ لم أكن ذليلاً‏.‏

وقوله‏:‏ وأنت فقير ، أي‏:‏ محتاج إلي‏.‏ والخليفة هنا‏:‏ خلفٌ يخلفه‏.‏ يقول‏:‏ أنا خلفك‏.‏ ولم يلحق بنوك، أي‏:‏ لم يكبروا له‏.‏

وقوله‏:‏ فقلت ازدجر إلخ، الأحناء‏:‏ جمع حنو بالكسر، وهي الجوانب‏.‏ وقولهم‏:‏ ازدجر أحناء طيرك ، أي‏:‏ نواحيه يميناً وشمالاً، وأماماً وخلفاً‏.‏ ويريد بالطير الخفة‏.‏ قاله الجوهري، وأنشد البيت‏.‏ وقالوا‏:‏ أراد بذلك انظر فيما تعمله، أمخطىءٌ أنت فيه أم مصيب‏؟‏ وقال الطوسي‏:‏ ازدجر‏:‏ ازجر، أحناء قولك، إنما هذا مثل، يقول‏:‏ ازدجر‏:‏ ازجر أحناء قولك، أي‏:‏ عن يمين وشمال، وعلى أي حال شئت‏.‏ يقول‏:‏ إن ركبت هذا الأمر الذي قلت لك فيه ازدجر عثرت، ومعناه انظر ما عاقبته‏.‏

وقوله‏:‏ فإن تتقدم إلخ، قال الطوسي‏:‏ منها، أي‏:‏ من هذه التي ذكر، يقول‏:‏ إن تقدمت تقدمت على غلظٍ وأمر صعب ليس يسهل عليك، وإن أخرت، يقول‏:‏ إن رجعت‏.‏ والكفل بالكسر‏:‏ كساءٌ يضعه الرجل على ظهر البعير ثم يركبه يتوقى العرق‏.‏

وقال ابن الأعرابي‏:‏ هو كساء يركب به، يدار حول سنام البعير ثم يعقد عقداً من خلفه يكتفل به الرجل فيمسكه، ويجعل العقد من خلف السنام، وفاجر‏:‏ مائل، وقيل‏:‏ فاتحٌ لرجليك يفرج ما بينهما‏.‏

يقول‏:‏ فكيف ركبت لم تجدها كما تريد‏.‏ وإنما يريد نفسه، أي‏:‏ إنك إن فقدتني، لم تجد مثلي‏.‏ وهذا مثلٌ‏.‏ انتهى‏.‏

وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏